الجزء الثاااالث
خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، ثم أنزل إلى الأرض رحمة واحدة أو جزءًا واحدًا؛ فبه يتراحم الخلق كلهم، إنسهم وجِنُّهم وعجماواتهم ودوابهم وبهائمهم؛ فإذا كان يوم القيامة رفع الله هذه الرحمة إلى التسع والتسعين عنده جل جلاله، فيتطاول إبليس وهو في الموقف بعنقه يظن أن رحمة الله سَتَسَعه في ذلك اليوم، فيا من رحمته وسعت كل شيء -ارحمنا برحمتك-.
والله لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة لم ييْأسْ من الجنة، ولَعمِلَ للجنة، ووالله لو يعلم المؤمن ما أعد الله من العذاب للكافرين لم يأمن النار أبدًا حتى يضع أول قدم من أقدامه في الجنة.
اخوتي في الله؛ هذا أدنى أهل الجنة وأعلاهم، كأني بكم تقولون: ما أزواجهم؟ وأقول لكم: لا إله إلا الله، ماذا يصف الواصفون في أزواج أهل الجنة، إنهن الحور، والحور ما الحور يا عباد الله؟ كواعب أتراب، لهن خدود كالورد والتفاح، ونهود كالرمان، وثغور كاللؤلؤ المنظوم، فيا له من نعيم، وأي نعيم لمن فاز بحوريات أهل الجنة!، قدْ رقَّ خصر الواحدة منهن، وحاجبها وأنفها، وطال قوامها وعنقها وشعرها، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، إذا قابلت زوجها، فقل ما تشاء في تقابل الشمس والقمر، إن حادثت فما ظنك بمحادثة المحبين، وإن ضمها فما ظنك بتعانق الغصنين، يرى وجهه في صحن خدِّها، ويرى مخ ساقها من وراء لحمها وعظمها وجلدها وعصبها وحُللها، لو طلعت على أهل الدنيا لملأت ما بين السماوات والأرض ريحًا، ولاستنطقت أفواه الخلائق تسبيحًا وتهليلا وتكبيرًا، لو طلعت لقالوا: لا إله إلا الله، وسبحان الله والحمد لله والله اكبر، لو طلعت لتزخرف لها ما بين السماوات والأرض، ولأغمضت عن غيرها كل عين، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن مَن على ظهر الأرض بالله الحي القيوم، خمارها على رأسها خير من الدنيا وما فيها، نصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها، لا تزداد على طول الدهور والأحقاب إلا حسنًا وجمالا، مبرأة من الحمل والولادة والحيض والنفاس، مطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس، لا يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، لا يُمل طيب وصالها، قد قصرت طرفها على زوجها؛ فهن قاصرات الطرف، لا تطمح لأحد سوى زوجها، إن نظر إليها سرَّته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب حفظته؛ فهي معه وهو معها في غاية الأمان، لم يطمثها قبله إنس ولا جان، كلما نظرت إليه ملأت قلبه سرورًا، وكلما حدثته ملأت أذنه لؤلؤًا منظومًا، وإذا برزت ملأت القصر والغرفة نورًا، هن الخيِّرات الحسان، هن العُرُض المتحببات إلى الأزواج. ما ظنُّكم -يا أيها الأخوة في الله- بامرأة إذا ضحكت أضاءت الجنة كلها من ضحكها، إذا حاضرت زوجها فيا لذة المحاضرة! ويا لذة الكلام! وإن خاطرتْه فيا لذة المخاطرة والمعانقة!، وإن كلمته فيا لذة الأسماع! فحديثها السحر الحلال. إن طال لم يملل وإن هي حدثت *** ودَّ المُحَدِّثُ أَنَّهَا لَمْ تُوجِزِسبحان من صورها!، سبحان من عدَّلها!، سبحان من أنشأها!، سبحان من جعلها للمؤمنين الصادقين!، سبحان من جمعني وإياكم في روضة من رياض الجنة، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في روضة من رياض الجنة عنده. إن غنَّت هذه الحورية فيا لذة الأسماع، ليس كغنائنا؛ فُحش وخنا ومجون وتحلل، وبعضنا –يوم انتكست بصيرته- يأخذ هذا الغناء ليدخله إلى بيته، ليفسد بيته، ولينشر الفحش في بيته، وليخرج ملائكة الرحمن من بيته، وليدعو إلى الرذيلة في بيته، وينسى أن هناك غناء قد يحرمه إن لم يتُب إلى الله –جل وعلا-. إن غنَّت الحورية فيا لذة الأسماع والأبصار! وإن قبَّلت فلا شيء أشهى من التقبيل، وإن آنست فيا لذة الأُنس بسماع الغناء والكلام والمحاضرة، هؤلاء حوريات أهل الجنة الذين أنشأهم الله في الجنة إنشاءً.
لكن هناك حورًا من نساء أهل الدنيا قمن بالتكاليف؛ صمن، وصلَّين، ووحدن وتصدقن، وقمن بالتكاليف كلها يكنَّ في الجنة أفضل من حوريات أهل الجنة، فضلا من الله ونعمة لنساء أهل الدنيا، فطوبى لامرأة غضت بصرها عن محارم الله، وطوبى لامرأة اتجهت إلى الله لتكون أفضل من حوريات أهل الجنة الذين أنشأهم الله في الجنة إنشاءً.
وأقف معكم ومع [ابن الجوزي] –عليه رحمة الله- في رياضه –رياض السامعين- وهو يصف مشهدًا من مشاهد نعيم أهل الجنة، حتى إنه ليتخايل ذلك النعيم، ويقول: والله إني لأتخيل دخول أهل الجنةِ الجنةَ وخلودهم فيها بلا تنكيل ولا تعب ولا نصب ولا صخب، يقول : فأكاد أطيش ويكاد طبعي يضيق عن تصديق ذلك لولا أن الله عز وجل ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ضمِنه لنا، انظروا إليه وهو يصف هذا المشهد، يقول: يا أيها الأخوة بينما رجل من أهل الجنة يتنعم فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإذا ببرق يضيء في الجنة، وهو مع حورية من حوريات أهل الجنة يتنعم معها،قال فيرفع رأسه فإذا هو بحورية أجمل من التي بين يديه وإذا بها تقول: يا ولي الله أما لنا فيك جولة؟ أما لنا فيك نصيب؟، تعرض خدماتها عليه تعرض نفسها عليه، فيقول بالله من أنت؟ قالت: أنا ممن قال الله فيهن (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وكل ما في الجنة مُذلل لأهل الجنة، فيطير بسريره إليها، فيأتي وإذا هي تضْعُفُ بسبعين ألف جزء من النور عن التي كانت بين يديه هناك، فيتعجب، ويقول: لم؟! قالت: لأنني صليت وصمت وعبدت الله، أنا من نساء أهل الدنيا، لم أتزوج في الدنيا؛ فأنا أعرض نفسي عليك، قال: أو أنت لي؟! قالت: نعم جزاء من الله لك، وجزاء من الله لي، قال: فيعتنقها أربعين عامًا لا تمله، ولا يملها، تقف بين يديْه، وفي رجليْها خلاخل من ياقوت، إذا مشت سمع من خلاخلها صفير صوت كل طير في الجنة، فلا إله إلا الله، أي نعيم هذا النعيم؟ وهو يعتنقها ينظر ليدها اليمنى فإذا هو مكتوب عليها (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ). يقول: مكتوب بالنور على اليمن (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ) وعلى اليسرى (
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) أما كفُّها فألْيَن من المخ، يُشم من رائحة كفها رائحة كل طيب في الجنة، وهي تمشي بين يديه، ثم يتمنى أن يمشين مشيات ومشيات؛ لأن كل مشية للحورية لها لذة ونعيم من نوع خاص، قال: فيتمنى أن تمشي، فيقول لها: اشتقت إلى مشيتك، فيكون معها سبعون ألف وصيفة –كما يقول ابن الجوزي في رياض السامعين- قال: فيمشون معها بسبعين ألف مشية فيضع الله لهم روضة من الكافور وروضة أخرى من الزعفران فيمشين بسبعين ألف مشية في هذه الروضة ويرجعن بسبعين ألف مشية في الروضة الأخرى، لو قضى الله الموت عليه طربًا من مشيتهن لمات، ولكن خلود في الجنة ولا موت، لو تَفَلَتْ في بحار الدنيا لأصبحت بحار الدنيا كلها عذبة من تفال هذه الحورية.
ثم يشتاق بعد ذلك إلى البخور، وكل ما في الجنة رائحة طيبة، قال: فيأتين بمجامر من در فيها بخور من غير نار، قال: فيمشين به تمشي رائحته في الجنة مسيرة مائة عام، ثم يشتهي الغناء يا من صان سمعه عن الغناء، يا من نزَّه بيته وأهله وأذنه التي أنعم الله به عليه عن الغناء، يشتهي إلى الغناء فماذا يكون الأمر؟ كيف يكون الأمر يوم يشتهي الغناء يا أيها الأخوة ؟ يقول: يجتمعن وينزلن، فيجتمعن قسمين من النساء المؤمنات اللائي كن في الدنيا قسم، وقسم آخر من نساء وحوريات أهل الجنة اللائي أنشأهن الله -عز وجل- في الجنة إنشاء. فاسمع إلى كلمات هؤلاء واسمع إلى كلمات
هؤلاء، أما أهل الجنة اللائي أُنشئن في الجنة فيقلن :
نحنُ الخَالِداتُ فَلا يَمُتْنَ *** نحنُ الرَّاضِياتُ فَلا يسخطن
نحن المقيماتُ فلا يظعنَّ *** نحنُ النَّاعماتُ فلا يبأسنَ
نحنُ الحورُ الحِسَان، أزواجُ قومٍ كِرَامٍ، طوبى لمن كان لنا وكنا له
فيرد نساء أهل الدنيا وحوريات أهل الجنة منهن:
نحنُ المُصَلِّياتُ وما صّلَّيْتُنَّ *** نحنُ الصَّائِماتُ وَمَا صُمْتُنَّ
نحنُ المُتصدقاتُ ومَا تَصَدَقْتنَّ *** نحنُ العَابِدَاتُ ومَا عَبَدْتُّنَّتقول [عائشة] -رضي الله عنها-: فغلبنهن. أما موسيقاهن -يا من سمع هذه الكلمات- لا فحش ولا خنا، لا فجور ولا تحلل، وليس كهذا الغناء، وإنما خلود بلا موت إقامة بلا ظعن، نعيم بلا بأس، صلاة وصدقة وصيام، وكل يفخر بهذا النعيم.
أما موسيقاهن يا من نزَّه نفسه عن الموسيقى في هذه الحياة، فيرسل الله ريحه فتهز ذوائب أغصان أشجار الجنة فتحدث صوتًا يشبه صفير كل صوت طير في الجنة؛ فلا تسل عن ذاك النعيم، وهن يغنين بأصواتهن الرخيمات اللذيذات، لو قضى الله الموت على أهل الجنة طربًا بهذا الغناء لماتوا، ولكن خلود بلا موت.
قال ابن عباس: ويرسل ربنا ريحًا تهز ذوائب الأغصان، ريحًا تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالآذان يا خيبة الآذان لا تتبدلي بلذاذة الأوتار والعيدان، خابت أذن تركت ذاك النعيم، وتلذَّذت بالأوتار والعيدان المحرمة (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) هذا مشهد من مشاهد أهل الجنة، جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة، لهذا كله بادر المبادرون، وتنافس المتنافسون يوم سمعوا بما سمعوا من هذا الوصف، ماذا كان منهم يا عباد الله؟
أحدهم قال: لأشترين حورية من الحور العين بثلاثين ختمة للقرآن لا أنام حتى أختم هذه الثلاثين ختمة، ويختم تسعًا وعشرين فيغلبه النوم فينام فيرى حورية من حوريات أهل الجنة تأتي فتركله برجلها، وتقول:
أتخطُبُ مثْلِي وعنِّي تَنَامُ *** ونومُ المُحبِّينَ عنِّي حَرَام
لأنا خُلِقْنَا لكلِّ امرئٍ *** كَثيرِ الصلاةِ كثيرِ القِيامفقام بعدها، وأكمل ذلك واجتهد، وقال: برحمة الله لأجتهدن إلى أن أنال هذه؛ إلى أن أنال هذه الحورية، [وأبو سليمان الدارني] –عليه رحمة الله- ينام ليلة من الليالي، عابد زاهد عبَد الله، وأخلص لله، وصدق مع الله، يمني نفسه بما في الجنة من نعيم، فيقول في ليلة من الليالي –نائمًا والنفس أحيانًا تحدث بما ترغب وبما تريد وبما تحب- قال: فرأيت –فيما يرى النائم- كأن حورية جاءتني، وقالت: ما هكذا يفعل الصالحون –يا أبا سليمان- أتنام وأنا أربى لك في الخدور من خمسمائة عام. لا إله إلا الله؛ فما نام بعدها إلا قليلا؛ جد وطلب ليلحق بها. وأبو سليمان كانت له رحلة الحج المعروفة، والتي ذكرها صاحب حادي الأرواح -عليه رحمة الله- يقول: رافقه شاب عراقي في طريقه إلى الحج، قال: فما رأيت هذا الشاب إلا باكيًا أو تاليًا أو مصليًا؛ نركب فيتلو القرآن، ننزل فنصلي فيصلي، ويذكر الله، لا يتكلم بكلام إلا بذكر الله أو بالصلاة والقيام، قال: فقلت: لا أسأله ولا أشغله، وعندما رجعنا من رحلة الحج، ووصلنا إلى بلاد العراق. قال: قلت له: أيها الشاب أسألك بالله؛ ما الذي هيَّجك على العبادة؟ ما الذي هيَّجك على العبادة لا تفتر عنها؟ قال: يا ]أبا سليمان] أما إن سألتني؛ فإني رأيت -فيما يرى النائم- حورية في قصر من ذهب، وقصر من فضة، له شرفتان من زبرجد وياقوت، وبينهما هذه الحورية مرخية شعرها لم أرَ جمالا كذاك الجمال، وهي تقول لي: جِدّ إلى الله في طلبي؛ فإني أربى لك في الخدور من خمسمائة عام، فوالله برحمة الله، وأقسم على الله برحمته: لأجتهدنَّ حتى أصلها أو أهلك دونها. والله لا أرتاح حتى أبلغ تلك المنزلة، هيَّجهم ذكر الجنة إلى الجنة، طيَّرت الجنة نوم العابدين من جفونهم، فتركوا الفراش، واتجهوا إلى الله في أسحارهم وفي لياليهم (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا يأتي أحدهم، فيفرش فراشه، ثم يضع يده عليه، ويقول: والله إنك لَلَيِّنٌ، لكن فراش الجنة ألْيَن، فيقوم ليله كله لا ينام، هكذا –يا عباد الله- جَدُّوا إلى الله؛ لأنهم علموا ما عند الله، وكأني بكم تقولون: هل في الجنة سوق؟ ولا إله إلا الله –أيها الأخوة- كيف حال أسواقنا هذه الأيام؟ أسواقنا أشغلت المصلين عن صلاتهم، وأشغلتهم عن ذكر الله حتى يوم يُذكر الله يهربون من المساجد إلى الأسواق، إلى مجتمع الشياطين، أسواقنا فيها مالا يعلمه إلا الله، ونسأل الله أن يعدل حال هذه الأسواق، وأن يرد الأمة إليه ردًا جميلا؛ فما حالها سيئ في أسواقها بل حالها سيئ في كثير وكثير، لكن نسأله برحمته أن يردنا إليه ردًا جميلا
أما سوق أهل الجنة فلهم سوق لكن أي سوق يا عباد الله؟ سوقهم يوم الجمعة، يوم الجمعة من شرفه إنه سوق –أيضًا- لأهل الجنة؛ يأتون كل جمعة، فيركبون نجائبهم، ودوابهم من ذهب وفضة ولؤلؤ إلى كثبان المسك، فيجلسون عليها، ثم يأتيهم الريح، فتأخذ من كثبان المسك، فترمى في وجوههم، وفي نواصي خيلهم ونواصي دوابهم، فيرجعون إلى أهلهم، وقد ازدادوا حسنًا وجمالا، فيقول أهلهم وزوجاتهم من الحوريات: والله لقد ازددتم حسنًا وجمالا، فيقولون: وأنتم -والله- بعدنا لقد ازددتم حسنًا وجمالا. هذا هو سوق أهل الجنة سوق أهل الجنة يا من أشغله سوق الدنيا عن طلب سوق الجنة، اتق الله، وتاجر مع الله، وإياك إياك أن تقصر رجلك عن مثل هذه المجتمعات، ومثل هذه الروضات، كم من إنسان قصر رجله عن مثل هذا المسجد، فقصرت به قدمه وزلَّت به من على الصراط إلى كلاليب النار. نسأل الله العافية والسلامة، يُعد الله -عز وجل- للذين يأتون إلى المساجد نزلا في الجنة كلما غدوا، وكلما راحوا فضلا منه ونعمة، نعيم الجنة لا ينفد، نعيم الجنة لا يبيد، نعيم الجنة لا يوصف، وإن من أعظم نعيم أهل الجنة -يا أيها الأخوة- حلول رضوان الله -جل وعلا- على عباده في الجنة، هذا من أعظم النعيم الذي ينالونه، وأعظم من ذلك التلذذ بالنظر إلى وجه الله الكريم -جلّ جلاله وتقدست أسماؤه- ذلك اليوم يسمى يوم المزيد يوم زيارة العزيز الحميد تصور نفسك والله -عز وجل- يستزيرك ويزورك، لا إله إلا الله. يا أيها الاخوة .
استمع ومثل نفسك في روضات الجنة يوم يأتيك المنادي ينادي أنت وأهل الجنة: يا أهل الجنة إن ربكم يستجيركم، فحي على زيارته، لا إله إلا الله، من السائل جل جلاله، وتقدست أسماؤه، سبحانه لا إله إلا الله، يقولون: سمعًا وطاعة وينهضون إلى الزيارة مبادرين، وإذ بالنجائب أعدت لهم يستوون على ظهورها، وينهضون، فيستوون إلى الوادي الأفيح المبارك على كثبان المسك التي جعلت لهم موعدًا، ثم يأمر الرب -تبارك وتعالى- بكرسيه، فيُنصب، ثم يأمر بمنابر لأهل الجنة منابر منوعة على قدر الأعمال؛ من ذهب، من فضة، من لؤلؤ، من نور، من ياقوت من زبرجد، وأدناهم –وما فيهم دنيء- على كثبان المسك؛ فلا إله إلا الله، ما أعظم نعيم الله في الجنة! حتى إذا استقروا في مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي مرة: يا أهل الجنة إن لكم موعدًا عند الله يريد أن يُنجزكموه، يريد أن يعطيكم موعدًا، فيقولون –وقد رضوا بما أتاهم من النعيم-: ألم يثقل موازيننا سبحانه وبحمده؟ ألم يزحزحنا عن النار؟ ألم يدخلنا الجنة؟ ألم يبيض وجوهنا؟ فبينا هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة، ورفعوا رءوسهم؛ فإذا الجبار–جل جلاله وتقدست أسماؤه- قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم، فيردون بصوت واحد: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم يضحك الله لهم. يقول أحد الأعراب: لا نُعدَم خيرًا من رب يضحك، ثم يقول: يا أهل الجنة، يا من أطاعوني بالغيب ولم يروني هذا يوم المزيد، فسلوني، فيقولون: ربنا قد رضينا فارض عنا. قال: لو لم أرضَ عنكم لم أسكنكم جنتي، أحللت عليكم رضواني، لا أسخط عليكم أبدًا، هذا يوم المزيد فسلوني، لا إله إلا الله، ما أكرم الله! لا إله إلا الله، ما أرحم الله! يا أيها الأخوة يعرض عليهم عرضًا، فيقولون: أرِنا وجهك نتلذذ بالنظر إليه، فيكشف لهم الرب –جل جلاله- الحجب، ويتجلى لهم، ويغشاهم من النور،ما لولا أن الله –عز وجل- قضى ألا يحترقوا لاحترقوا من نوره (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) لا يبقى أحد في ذلك المجلس إلا حاضر ربه محاضرة، وكلم ربه كفاحا بلا ترجمان يقول الله ألم تعمل كذا في يوم كذا ألم تعمل كذا ألم تعمل كذا فيذكره ببعض غدراته وزلاته فيقول يارب ألم تغفر لي قال بمغفرتي بلغت ما بلغت فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجه الكريم الغفار ( وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة).